Image removed.

إعلانات

نشــأة الفــكر العـقدي (قضاياه التأسيسية وأصوله النظرية)

نشــأة الفــكر العـقدي

(قضاياه التأسيسية وأصوله النظرية)

 

د. محمد الحسن بن اعبيدي(*)

 

المقدمة

تتنزل هذه الدراسة في فضاء معرفي يجمع بين النظر والتطبيق، فهي نظرية لأنها ترصد الفكر في مساءلته الواقع المحسوس متطلعا لاستكناه الغائب غير المدرك، وأسرار الموجود ومصائره وعوامل التغيير والاختلاف في الإنسان ومحيطه الخاص.

ثم هي تطبيقية لأنها توظف مسائل مستنبطة من محمولات نصوص الوحي تستحث أولى النظر للتأمل والتفكر والتدبر وأخذ العبر من تنوع المخلوقات ومصادر أرزاقها والنباتات واختلاف مذاقاتها، وسريان الأفلاك ومداراتها، وتناسب ذلك مع الأطوار التي يمر بها الإنسان في حياته وحاجته للسعي والراحة والضياء والظلمة والاهتداء }وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً{([1])، الشمس ضياء والقمر نورا }لتعلموا عدد السنين والحساب{ إلى غير ذلك من أساليب الاستنهاض والتنبيه للإنسان أن لا عبثية في حياته ولا في الكون من حوله، وأنه يعيش بين ثنائية التسخير و الابتلاء ليوظف ما خلق من أجله في ما خلق له ويصرف ملكاته الذهنية للإعداد ليوم الجزاء وقطف الثمار، وبالإضافة إلى ما في القرآن من أمر بالنظر العقلي، وجدت الذهنية الإسلامية نفسها مضطرة لابتكار أساليب حجاجية عقلية في لحظة تأثيرها وتأثرها بحضارات الشعوب المستقبلة للرسالة المحمدية بعد أن خرجت من مهدها (الجزيرة العربية) واعتنقتها نُزّع من أعراق شتى وأمشاج بشرية مختلفة، الذين وإن نطقت ألسنتهم بالإسلام فإن قلوبهم لم يخالطها نور الإيمان ولم يقتلع ما في سخائمها من بقايا وثنية سابقة وتعاليم ديانات سماوية محرفة.

ولعل في إعلان بعضهم للإسلام شَبَهٌ بمهاجر أم قيس([2]) ليأمن على نفسه ويرفع عنه حظر التحدث في الدين ليجتال ناشئة المسلمين فينجز بفكره ما عجز عنه بسيفه ويشغلهم عن مجالدة الأعداد بمجالدة الأشقاء في الدين والعرق، حينها انتقلت الذات الإسلامية من صراعها مع الآخر المختلف بالحجة والموعظة الحسنة لجلبه وجذبه لما فيه صلاح دينه ودنياه ودفع شره عن إهلاك الحرث والنسل والإفساد في الأرض إلى صراع مع نفسها منقسمة على ذاتها، شخوص هذا الصراع تمتاح من نفس المصدر، وإن تعددت تفسيراتها له وتبريراتها لما تنتحل وتأويلاتها فيما تقع فيه من دماء وأعراض، فإنها ترفع الإسلام والدفاع عن الإسلام وتتهم مخالفيها بالخروج عن الإسلام والابتداع فيه، وهدم قواعده وهي نفس التهم الموجهة إليها.

انقسام الذات الإسلامية على نفسها وما أنتج من بحوث ومحاورات فكرية راقية تداخل فيها النقلي والعقلي بعصارة الفكر البشري في محطاته المختلفة وإن ساهم في إثراء الثقافة الإسلامية وربط الصلات بين أنساق المعرفة البشرية فإنه إشكالية تفرض نفسها على البحث في منشإ الانقسام وخلفياته وعوامله المؤثرة أهو حالة عرضية ما تلبث أن تختفي؟ أم أنه جزء من مكونات النفس البشرية مفطور فيها؛ إذ خلاف البشر ملازم لخلقهم واجتماعهم }ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم{؟ أم أن الاختلاف في الأمة المحمدية تابع لسعة نصوصها المصدرية وقابليتها لتعدد القراءات؟ وهو ما جعل أهل الملة يختلفون حتى في المسائل التي مجال العقل فيها ضيق (العقيدة) تبعا لتفسيرات الشيوخ.

هذه الفرضيات ستجيب عنها الدراسة متوسلة لذلك بتمهيد عن بداية البحث في العقيدة، الإرهاصات التي صاحبت البداية، والأسباب الممهدة لها، ثم محور أول عن القضايا المؤسسة في البحث في العقيدة مثل الحاكمية والإرجاء والمصير، ثم في محور ثان عن الأصول النظرية في العقيدة نتحدث فيه عن مصادر المعرفة البشرية وأقوال العلماء في مداركها وحكم إعمال العقل، وفي

محور ثالث نتحدث عن أسلوب القرآن ومنهجه في البرهنة.

 

تمهيد : إرهاصات وبدايات

ظهر الفكر العقدي في شكل أسئلة (لاهوتية) جديدة في طرحها وتناولها على الذهنية الإسلامية التي كانت تمتاح معارفها في عصرها الأول من القرآن وتفسيره و السنة النبيوية وما فهمه الصحابة وتابعيهم دون تكلف للبحث فيما لم يبحث فيه هؤلاء ومن سار على نهجهم .

إذ كانوا يعتبرون السؤال والتساؤل في غير المتعبد به بدعة سبيل المشتغلين بها المراء والجدل الذي أهلك الأمم السابقين على الإسلام وفرقهم شيعا كما أخبر الرسول e: «إنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أبيائهم».

يفهم من هذا الحديث تورع الصحابة عن سؤال الرسول e عن غير الضروري العملي من الدين الذي أوجدته نازلة واقعة وانتظارهم الأعراب الوافدين من خارج المدينة ..

مع أن الشريعة الإسلامية خاطبت الناس بالمألوف المعهود في عرفهم التخاطبي وأساليب التلقي الذي يستوي في فهمه واستيعابه العالم والجاهل بفطرته دون إلزامهم التأمل والنظر وإجالة الفكر وجعل ذلك شرطافي صحة الإسلام وكمال الإيمان وقد جعل الإمام الشاطبي ذلك مقصدا من مقاصد التيسير ورفع الحرج عن المكلفين المخاطبين بتعاليم الإسلام حيث اعتبر من مقاصد وضع الشريعة الإفهام لمراعاتها لأحوال المكلفين بها وقت الخطاب -العرب- الذي وصفهم القرآن، بالأميين تمييزا لهم عن غيرهم من الأمم الأخرى التي عرفت الكتب السماوية أو اشتهرت بالعلوم العقلية الكسبية لذلك ربط الإسلام تعاليمه بمعهود الأميين في محيطهم الطبيعي والمادي وأسلوبهم التعبيري في تداول المعلومات وانتقالها من متلق إلى متلق آخر فجاءت أمثلة القرآن، التوضيحية مستقاة في أغلبها من فضاء البدوي الرحب بسمائه المتلألئة وبيئته المتنوعة فجعل مواقع النجوم وامتدادت الظل تبعا لمدرات الشمس مواقيت للتكاليف البدنية. الصلاة (زوال الشمس، غروبها انفراج الظلمة بعد اشتدادها) وكذلك الصوم (الشهر تسع وعشرون) وما روي من قوله نحن أمة أميه وكذلك الحج قال تعالى: }الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ{ وقوله }يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ{ كل هذا تيسييرا لتطبيق الخطاب التكليفي ومراعاة لأحوال المكلفين ليلا يلحقهم الإعنات والعجز ولتقوم عليهم حجة التبليغ والعلم بدعوة الرسل }لِيَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ{.

فالخطاب التكليفي انطلاقا من النصوص السابقة  يستوي في فهمه عامة الناس وخاصتهم بحسب استعدادهم الفطري وتفاوتهم الذهني و المعتبر فيه المتبادر إلى الذهن من ظواهر نصوص القرآن وسنة نبييه دون البحث عن الخفي من المعاني الملتبس مما اختص الله بعلمه فيما يتعلق بأسمائه وصفاته والأقدار وأحوال الميعاد في اليوم الأخر الذي وصفه القرآن بالمتشابه واعتبر المشتغلين ببحثه من أهل الزيغ والانحراف العقدي }فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ{ .

وطبيعي جدا أن تتوقف الصفوة عن البحث فيما أشكل فهمه ولم يتعلق به عمل تكليفي خوفا من الدخول في صف الزائغين والافتنان في الدين وهم الذين أثني القرآن على إيمانهم بقوله: }يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ{ فالإيمان بالغيب يقتضي التسليم بما جاء عن الله إلى مراد الله وبيان رسوله صلي الله عليه وسلم لأنه لا أحد أعلم من الله بالله وبما جاء عن الله من رسوله e.

فمضى نهج السلف على التفويض والإيمان بما جاء عن الله على مراد الله والامتناع عن التطلع لمعرفة الكيفيات والتفاصيل وتبديع من ظهر منه ذلك كما أثر عن الإمام مالك في قوله الذي سأله عن الاستواء (الاستواء معلم والكيف مجهول والاشتغال به بدعة).

وقد ساق الفضول المعرفي مبتدعة عصِر ما بعد الخلافة الراشدة بإثارة تساؤلات عقدية حول ذات الله وصفاته غربية على العقل المسلم الذي قدمنا ميزة إيمانه الفطري تحدو أصحاب هذه التساؤلات دوافع شتى بعضها سياسي تبريري والآخر ديني دفاعي لتنشأ الناشئة الأولى للخلاف العقدي في الإسلام وتغرق الأمة في سيل من الاختلاف والافتراق الذى  يستبيح  فيه الأخ دم أخيه في المعتقد والعرق وتسقط حرمة المقدس وتتعدد تأويلات النص وتوظيفه.

وهذا ما جعل الخلاف في تفسير مضامين النصوص الدينية والتماس المخرج الأمثل للتوفيق بين ما تقتضيه تلك النصوص من تعظيم وتنزيه لله تبارك وتعالي وما يثيره المبتدعة في أذهان العامة من شبه وشكوك حول الظاهر المتبادر من محامل نصوص أسماء الله وصفاته ووعده و وعيده في الآخرة المترتب على مسؤوليتهم في الدنيا عن أفعالهم من أهم مشاغل النخبة الفكرية المترسمة نهج السلف .

و بفعل هذه العوامل تحول الخلاف من تنوع محمود ورحمة للأمة إلى اختلاف في الأصول وِمراء وجدل في الدين تطور إلى سفك الدماء وهتك الأعراض وتمزيق جسد الأمة الذي لم يكد يتعافى حتى هجمت عليه الأدواء ونهشته الأعداء من الخارج.

ونستشهد هنا بكلام لإمامين محققين أحدهما عاصر أوج الخلاف العقدي ونشأته والآخر متأخر عنه.

يقول الأول أبو الحسن الأشعري: "إن كثيرا من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم ومن مضى من أسلافهم فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلا لم ينزل الله به سلطانا ولا أو ضح به برهانا ولا نقلوه عن رب العالمين ولا عن السلف المتقدمين فخالفوا روايات الصحابة عن نبي الله e"([3]).    

يقول ابن تيمية: "وكثير منهم إنما ينظر من تفسير القرآن والحديث فيما يقوله موافقوه على المذهب فيتأول تأويلا بهم، فالنصوص التي توافقهم يحتجون بها والتي تخالفهم يتأولونها وكثير منهم لم يكن عمدتهم في نفس الأمر اتباع نص أصلا"([4]).

يضعنا النصان رغم اختلافهما زمنا ومرجعية ـ أمام حقيقة واحدة هي أن كل خلاف مهما كانت أطره الفكرية لا بد أن يستنجد أصحابه بالنص لتدعيم موقفهم وإقصاء مخالفيهم مستخدمين لذلك شتى وسائل القراءات التوظيفية للنص من تحريف وتنزيل في غير المراد وتحايل على المعني المنطوق وتخف وراء المضامين أو إرتكان لحرفية النص وتخط للظوا هر دون نظر للقرائن المساعدة على الفهم ولو كانت أقوال الرسول الله e وتقريراته.

المحور الأول: أمهات القضايا الخلافية

لا تنفك قضايا الخلاف العقدي عن بعدها السياسي الذي سيأتي التنبيه لبعض مسائله.

ولا نجانب الحقيقة إن رددنا المقولة الشائعة في فقه السلطانيات التي مفادها أن كل خلاف في الإسلام أصله الخلافة حتى لا يكاد يسل سيف في الإسلام إلا وللإمامة فيه دخل حسب تعبير الشهرستاني في ملله ونحله([5]).

1. خلافة الرسول الدينية والدنيوية

لا يختلف كتاب فقه السلطانيات ومنظرو الفكر السياسي في الإسلام أن شكل ونمط الخلافة في الإسلام مسألة اجتهادية لم يرد فيها نص توقيفي يحسم النزاع فيها عدى بعض الإشارات والإيماءات المستروحة من بعض الآيات أو الأحاديث التي تحمل إشارات بسابقية بعض صحابته ومن ثم أحقيتهم بالأمر من بعده وكذلك المقاصد العامة لنصوص الكتاب والسنة التي تجعل استقامة حال الأمة واتفاق كلمتها ودرأ المفاسد عنها وجلب المصالح لها وتهيئة المجال لإقامة حدود الله مناط لشرعية من يتقدم لولاية أمر المسلمين في كل زمان ومكان..

وقد انطلق الصحابة رضوان الله عليهم مما سبق بعدما فطنوا لحال الأمة الذي كاد يؤول للتنازع ونبيها عليه أفضل الصلاة والتسليم لم يغب جسده الطاهر في التراب في حادثة سقيفة بني ساعدة التي أسست لأول نقاش في الإسلام بين الصحابة الأطهار فيمن يتولى رعاية تطبيقهم للتكاليف الدينية والسهر على مصالحهم الدنيوية، فرأي الأنصار أن إيواءهم للرسول الله e والمؤمنين به الأول حين طرده قومه ونصرتهم له بالدم والمال»([6]) يجعلهم أحق الناس بولاية أمر أمته من بعد أو على الأقل التقاسم مع مهاجري قريش شأن الولاية كما ورد على لسان نقيبهم: "منا أمير ومنكم أمير"([7]).

وقد كادت الفتنة أن تقع بين قطبي جيل النبوة حين جرد الحباب بن المنذر سيفه مدافعا عن حق الأنصار في الخلافة قائلا أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب من يبارزني ؟ فتلافي حكماء المهاجرين الأمر ووقفوا في وجه الفتنة إذ قام أبو بكر الصديق وكانت له مكانة بين الفريقين لسابقيته في صحبة الرسول التي لا يزاحمه فيها أحد ولكونه رفيق الرسول صلي الله عليه وسلم في مسيرة بناء الدولة الإسلامية مهاجرا من مكة إلي المدينة وأنيسه في الغار }ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ{ كما في القرءان بالإضافة إلي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمره أن يؤم الناس حين اشتد عليه المرض وغير ذلك من شهادات التزكية لأبي بكر والتي تجعله حلا مقبولا عند الفريقين لذا خاطبهم بالقول: "إن العرب لن تدين إلا لهذا الحي من قريش" مستندا لمكانة قريش عند العرب لكونها ساكنة الأرض التي اختارها حرما آمنا تهوي إليه أفئدة الناس من فجاج الأرض ولما لها من القوة والمنعة، كل هذا يجعل مطالب المهاجرين مشروعة بمواصلة نشر دعوة نبيهم و السهر علي مصالح أمته الناشئة الدينية والدنيوية.

وستسهم مقولة أبي بكر: "لن تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش" في بلورة أولى قواعد الإمامة في الإسلام وهي القرشية التي صارت فيما بعد تشريعا لكل طالب للإمامة إن لم يكن قرشيا بالنسب فهو قرشي بالإدعاء أو ينتمي للنسب الشريف ليضفي شرعية تقدمه للإمامة ولعل كثرة الإدعاء من طرف المستولين على الحكم أو الراغبين فيه للنسب القرشي جعلت بعض مفكري الإسلام يفسر القرشية الواردة في الحديث بالعصبية التي تضمن لصاحبها استتباب الأمن الداخلي ورد الاعتداء الخارجي عن الدولة.

ومها تكن وجاهة هذا الرأي فإن مقولة أبي بكر حسمت النزاع في حينه واستتبعها إجماع على بيعة أبي بكر أول خليفة للمسلمين بمبادرة من عمر ابن الخطاب فشرع في تنفيذ أوامر النبي e والسير على خطاه وانشغل الصحابة بمواصلة الفتوحات الإسلامية تحت إمرة خليفتهم الراشد أبي بكر الصديق، تولى بعد الصديق عمر الفاروق ثم بعد عمر صار الأمر شورى برأي منه إلى ستة توفي رسول الله e وهو عنهم راض واستخلف على إمامة الناس صهيبا وأمره أن يقوم عليهم ثلاثا إن لم يختاروا أميرا ضرب أعناقهم.

وقد عهد الستة أمر الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف بين عثمان ذي النورين وعلي ابن أبي طالب كرم الله وجهه فأختار للخلافة عثمان بن عفان بعد أن أخذ العهد أن من أختار لا ينازع وتذهب الروايات إلى أنه لم يختر بين الرجلين إلا بعد استفتاء عام بين الرجلين في المدينة وضواحيها يسأل الشيخ والمرأة والصبي ولم يستقم الأمر لعثمان t طويلا إذ ما لبث أن قامت قائمة الفتنة يحمل لواءها نزع من أعراق شتى وأمشاج مختلطة قدموا المدينة وأخذوا ينشرون بين أهلها أن عثمان t أحدث بعد أصحابه([8]) .

فاستباحوا دمه الشريف وفتحوا على الناس بابا لم يسد بعد إلى اليوم وبويع بعد عثمان للإمام علي كرم الله وجهه الذي لم تسلم بيعته من منازع إلى أن وصل الأمر لحد الاقتتال بالسيف بينه وبين من شاركه في أسبقية الإسلام والصحبة ووقع ما وقع في معركة الجمل بين صحابة الرسول الله e وهم معذورون مأجورون لا يسعنا إلا السكوت عما دار بينهم..

ثم بين علي t وعصبة عثمان بن عفان نزاع آخر انتهى في واقعة صفين لحادثة التحكيم التي هي الأخرى قضية من أكبر القضايا في الخلاف العقدي.

2. التحكيم أو الحاكمية

رفع الخوارج التحكيم غطاء دينيا يبرر انفصالهم عن الإمام علي كرم الله وجهه ودخولهم المعترك كفريق سياسي له رأي في الخلافة يقوم على مبادئ من أشهرها كون القرشية ليست شرطا فيمن يتقدم للخلافة إذ أغلب الرافعين لهذا الشعار لا ينتمي للعصيبة القرشية في حين ينتمي الإمام علي كرم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان لنفس العصبية مما يعني أن أي فرقة ثالثة تريد منافستهما يجب أن يكون مستندها قويا وطرحها مقنعا وهذا ما فعلته فرقة الخوارج برفعها شعار التحكيم وانشغالها بتحديد المفاهيم الإسلامية التي تقوم عليها وضعية الشخص فى الإسلام كالكفر والإيمان في محاولة لإيجاد الحلول للحرج الديني الذي وقع فيه جمهور المسلمين وهم ينظرون للفتنة التي أوقعت أجلة الصحابة في اقتتال في معركة الجمل وفي صفين بكثير من الاستغراب والحيرة إذ عهدهم القريب بالرسول صلي الله عليه وسلم وصحابته لا ترفع سيوفهم إلا علي رؤوس أهل الشرك والارتداد الواقفين في وجه تعاليم الإسلام وتطبيق حدوده..

من هنا وجدت بدعة الخوارج منفذا دعويا مهما وهو أن فريقي الصحابة لا يتصور أن يكونا متساويين في حصانة الإسلام و إلا لما رفع السيف بينهما فأحدها لا محاولة رفعت عنه هذه الحصانة بتصرف صدر منه أو أقرار أقر به أو قول نقل عنه ومن ثم جرى عليه حكم غير المسلم في استباحة الدم والمال والعرض...

ومعلوم أن الخوارج أعلنوا في البداية أحقية علي كرم الله وجهه بالخلافة فقاتلوا معه في وقعتي الجمل وصفين وفي الأخيرة عند ما أحس جيش الشام أن الدائرة كادت أن تدور عليه رفعوا المصاحف على السيوف برأي من عمرو بن العاص ففطن الإمام علي t أن في الأمر خدعة ومن المفارقات أن الذين خرجوا عليه بحجة قبوله لنتائج التحكيم هم من أشار عليه وأصر أن يقبل به وبعد ذلك أعلنوا ارتداده لأنه حين قبل حكم الرجال خالف قوله تعالى: }إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لله{ حسب قولهم. .

ولعل هذا هو أول توظيف للدين في خدمة السياسة وتحصن وراء ظواهر فى محاولة لإضعاف مواقف الخصوم أمام العامة والجمهور ممن لم يرزقوا ملكة النظر والاستنباط مما وراء الألفاظ من معان استنادا للقرائن والسياقات.

ولقد انتدب علي كرم الله وجهه لنقاش هذه الفرقة عندما أعلنت عن نفسها وبدأت تنشر مبادئها حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأوصاه عندما أراد التوجه لهم بالقول: "لا تجادلهم بالقرآن فهو حمال أوجه".

جاء في البداية والنهاية أن ابن عباس لما توسط معسكر الخوارج قام إليه زعيمهم ابن الكواء فقال مخاطبا قومه:يا حملة القرآن هذا عبد الله بن عباس فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه ممن يخاصم في كتاب الله بما لا يعرفه، هذا ممن نزل فيه وفي قومه: }بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ{([9]).

فردوه إلى صاحبه ولا تواضعوه كتاب الله فقال بعضهم والله لنواضعنه فإن جاء بحق لنتبعه وإن جاء بباطل لنكبتنه بباطله فواضعو عبد الله في الكتاب ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلف كلهم تائب فيهم ابن الكواء حتى أدخلهم على علي t الكوفة([10]).

ومن جملة ما قدم الخوارج لابن عباس أنها مآخذ علي الإمام علي t أن كان أميرا للمؤمنين فلما حكم في دين الله خرج من الإيمان حسب زعمهم فليتب بعد أن يقر على نفسه بالكفر فقال لهم ابن عباس لا ينبغي لمؤمن لم يشب إيمانه شك أن يقر على نفسه بالكفر.

قالوا إنه قد حكم الرجال قال إن الله U قد أمرنا بالتحكيم في قتل الصيد حيث قال: }يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ{([11]) وأمر ببعث الحكمين عند اختلاف الزوجين: }فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا{ فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين فقال إنه حكم عليه فلم يرض فقال: إن الحكومة كالإمامة ومتى فسق الإمام وجبت معصيته وكذلك الحكمان لما خالفا نبذت أقاويلهما قالوا قاتل ولم يسب ولم يغنم لئن كانوا كفارا لقد حلت له أموالهم وإن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم قالوا ومحى عن نفسه أمير المؤمنين فإن لم يكن أميرا للمؤمنين فهو أمير للكافرين.

وقد أجاب ابن عباس عن النقطتين الأخيرتين بقوله أما قولكم إنه قاتل ول يسب ولم يغنم ، أتسبون أمكم ثم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟ فقد كفرتم وإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام والله U يقول: }النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ{.

فأنتم تترددون بين ضلالتين فاختاروا أيهما شئتم وأما قولكم إنه محى عن نفسه أمير المؤمنين فإن رسول الله e يوم الحديبية حين رفض له المشركون أن يكتب في وثيقة الصلح "رسول الله e" قال والله إني لرسول الله أكتب يا علي من محمد ابن عبد الله فرسول الله كان أفضل من علي([12]).

وبعد مناظرة ابن عباس للخوارج رجعت منهم طائفة وبقيت أربعة آلاف عكفت على تطوير أصولها العقدية وما فتئت هذه الأصول أن أصبحت قضايا يدار حولها النقاش في حلقات العلم ومجالسه التي كانت تدار من طرف كبار الصحابة والتابعين خاصة أقوالهم فيما يتعلق بمرتكب الكبيرة المتفرع من تحديد صفة الإيمان والكفر لتصبح هذه المقولات فيما بعد أساسا لقضايا علم الكلام ومدار للتنظير العقدي بين الفرق الإسلامية أو على الأصح بداية النظر اللاهوتي في الإسلام الموغل في التجريد والبعد عن مألوف العامة والجمهور المخاطب بالتعاليم القرآنية وليس ذلك إلا لأن فرقة الخوارج نقلت الخلاف من كونه خلافا في الفروع إلى خلاف في الأصول يدخل في صميم تحديد هوية الإنسان الدينية وما يترتب على ذلك من حقوق يقول ابن تيمية: "الخوارج هم أول من كفر المسلمين يكفرون بالذنوب ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله"([13]).

ولم تزل الأيام حتى عصرنا الحاضر تكرر نفس الطرح الخوارجي المتطرف وإن تسمت بأسماء مختلفة.

3. الإرجاء

يحمل القول بالإرجاء في طياته موقفا سياسيا محايدا وإن ألمح ظاهره فتوى دينيا أو تكييفا شرعيا لآثار الصراع الدائر بين الصحابة الذي أخرجه الخوارج من دائرة المسكوت عنه المتجاوز إلى مسألة تتعلق بالمعتقد ومحددات الإيمان والكفر وما يتبع ذلك من أحكام المعاشرة وعصمة الدم والمال وإذا كان الخوارج في طرحهم المتخفي وراء ظواهر نصوص الكتاب لهذه القضايا يبحثون عن إمام بديل غير منتم لأحد الفريقين المتنازعين يختاره المسلمون دون أن يكون قرشيا إذ لا يشترطون قرشية الإمام وصدق من قال فيهم إنهم طلبوا الحق فأخطئوه .

فإن فكرهم الثاني شكل إيديولوجية معارضة دولة بني أمية الناشئة لما بدا في نظرهم في تصرفات بعض خلفاء هذه الدولة من تناقض مع تعاليم الإسلام و عدم أهلية لتقلد مسؤولياته([14]) .

فبدأ القول بتكفير أمراء هذه الدولة يأخذ طريقه لأذهان العامة والخاصة . لكن بني أمية وإن لم يسعوا لتشكيل إيديولوجية معاكسة للفكر الخارجي الذي بدأ العامة يستسيغونه فإن خيبة أمل طائفة أخرى من النخب الفقهية في تغيير الواقع واستعادة نموذج دولة النبوة والخلافة الراشدة وخوفها من الفتنة والافتتان جعلتهم يقولون بنقيض قول الخوارج في الإيمان والكفر وهو أن الإيمان اعتقاد قلبي ونطق باللسان ولا تضر معه المعاصي ولا تلغي الكبائر إيمان إنسان والحكم إلى الله ومن هنا جاءت تسميتهم بالمرجئة.

إذ الإرجاء يعني التأخير كما يقول البغدادي: "إنما سموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان" والإرجاء بمعني التغيير يقال أرجئت وأرجأته إذا أخرته وروى عن النبي e أنه قال لعنت المرجئة على لسان سبعين نبيا قيل من المرجئة يا رسول الله e قال: «الذين يقولون الإيمان كلام»([15]) .

يضعنا تحديد البغدادي المستند إلى الحديث أمام تفسير للإرجاء يفصل بين أركان الإيمان ليقصره على النطق فقط وكأنه بهذا رفع للمؤاخذة عن العصاة وفتح الباب أمامهم ليقترفوا ما شاءوا دون أن يكون ذلك سببا في سلب صفة الإيمان الكامل عنهم أو تذكيرهم بالوعيد الأخروي وهذه أكبر هدية للسلطان المستبد الباحث عن وسائل تدعيم أركان حكمه، مع العلم أنه لا توجد صلة مباشرة بين حكام بني أمية وشيوخ المرجئة كصلتهم بالجبرية التي تربي أقطابها في بلاطهم كما سنبحث لاحقا.

4. الجبر أو تكييف الفعل البشري

مصدر الفعل البشري ومساءلته عليه: إشكالية طرحت نفسها علي النظر الإنساني منذ القدم إذ الإنسان في حياته تعترضه أمور وتمر أحوال عليه لا يملك في وجهها إلا الخضوع والتسليم لقدرة قادر تسوقه من حيث لا يدري بعد أن هيأت له الأسباب ورتبت عليها المسببات وبينت معالمها }إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً{.

فالإنسان يريد ويراد له ويسير ويسيًر ولن يجازي إلا علي نتيجة سيره ولن يسأل إلا عن قصد إرادته }إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ{ وقوله: }فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ{.

ومع ذلك يبقي الإنسان حائرا حين يريد ويكون ما لا يريد ويسعى لطلب رزقه ويجده في غير المسلك الذي سلك و لو علمه في البداية لما تعب ولما كد مثل هذا تلقاه جيل الوحي الأول بالإيمان بما أخبر القرآن وما بين الرسول الله e دون البحث في التفاصيل تمثلا بحديث عمر بن الخطاب عن الإسلام والإيمان: «أن تؤمن بالقدر خيره وشره».

ومضى الشأن على هذا الإيمان من طرف كبار رجالات السلف الصالح من محدثين وفقهاء شعارهم «الناظر في القدر كالناظر في ضوء الشمس كلما ازداد نظرا ازداد حيرة»([16]).

غير أن عصر التساؤلات والتجاذبات السياسية ما بعد الفتنة أباح الكلام في المسكوت عنه والمحظور فيه بفعل تدخل السياسية في الدين واستغلال الدين للسياسية وتحديدا منذ تدشين معاوية بن أبي سفيان الكرسي الأموي وإعلانه بدء الملك العضوض([17]) إيذانا بعلمنة الدولة بمفهومها الخاص الذي يعني عدم تدخل العلماء في شؤون السياسية والحكم وإتاحة هامش واسع للأمراء تجعل المساءلة عن تصرفاتهم غير ممكنة يتأول لها النص أو يلتمس لها أحسن المخارج فراجت في الظرف ذاته مقولات تستند للحديث النبوي أو تضاف له من نحو "السلطان ظل الله في الأرض" وإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" فتأله السلطان أو أله وأسر الفكر في التأسيس والتبرير لتصرفاته.

وتذكر المصادر أن عبد الملك ابن مروان حين قتل عمر بن سعيد أحد فقهاء التابعين خرج إلى الناس فقيه من بلاطه فقال إن أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ([18]).

وطبيعي أن يكون مبدأ عدم مسؤولية الإنسان عن أفعاله هو المبدأ الأكثر اقناعا لملوك بني مروان لأنهم واجهوا معارضة كبيرة من طرف صغار الصحابة والمحدثين إذ هم أخذوا الإمارة بالقوة دون أن تكون لهم أهلية سابقية في الإسلام فهم أبناء الطلقاء يوم الفتح الأعظم([19]) مع ما أثر عن بعضهم من تهاون في الحدود الشرعية وتنكيل بالخصوم ومثال الحجاج حاضرا في النفوس ومحاصرته للحرم المكي.

كل هذا يفسر سر ارتباطهم بعقيدة الجبر واحتضانهم لروادها الأوائل مثل الجهم بن صفوان والجعد بن درهم الذي كان يتولي تربية أبناء الخلفاء.

يلخص عبد القاهر البغدادي عقيدة الجبرية بقوله: أتباع الجهم بن صفوان الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان وزعم أيضا أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط وأن الكفر هو الجهل به فقط وقال لا فعل ولا عمل لأ حد غير الله تعالي وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز كما يقال زالت الشمس ودارت الرحى([20]).

وقد واجه فقهاء الصحابة ـ ممن أدركوا القول بالجبرـ وكبار التابعين هذا العقيدة بالرفض وبينوا بطلائها وخطورة استناد السلاطين إليها إذ روي أن ابن عباس كتب إلى قراء الشام الذين يقولون بالجبر يذمهم على مظاهرتهم العاصين والظلمة الذين يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم وينسبون إلى الله شر فعالهم حيث يقول: "أتأمرون الناس بالتقوى وبكم ضل المتقون وتنهون عن المعاصي وبكم ظهر العاصون هل منكم إلا مفتر على الله ليجعل إجرامه عليه سبحانه وينسبه إليه"([21]).

ونفس الاستنكار روي عن ابن عمر والحسن البصري.

تلك كانت أهم قضايا الخلاف العقدي التي مثلت محور المطارحات الفكرية بين علماء الإسلام ومهدت لظهور أصول النظر العقلي في العقيدة الذي سيعرف فيما بعد بعلم الكلام أو أصول الدين.

المحور الثاني: أصول النظر في التوحيد ومناهجه

سنوزع الحديث في هذا المحور على عدد من النقاط لضبط الأفكار المثارة فيه، وهي أوليات المعارف كنقطة أولى، ثم حكم النظر في التوحيد كنقطة ثانية ومناهجه كنقطة ثالثة:

أوليات المعارف البشرية ومداركها

حركة الفكر في علل الأشياء وتأمله للصفات المميزة لبعضها عن بعض ، تسمى نظرا أو معرفة كسبية يتطلب حصولها درجة عالية من التأمل والاستدلال والمقارنة والاستنتاج.

ذلك أن ما ينقدح في ذهن الإنسان من ارتسامات حول موجودات العالم المحيطة به هو مجرد تحصيل أولي للمعاني المجردة قبل أن يتم بناؤها وتركيبها في شكل حقائق ، ومعلومات ثابتة يصح الإخبار عنها وتحصيل المعرفة بها بعد أن تم تخزين الصور والخصائص المميزة للمخبر عنه في القوة المدركة أو مخيلة الإنسان.

فتخزين الصور والخصائص الأولية يسمى تصورا وتركيبها والترتيب بينها بنسبة بعضها إلى بعض يسمى تصديقا في عرف المناطقة.

فالتصور لا يحتاج إلا إلى الإشارات التي ترسلها الحواس الخمس لمَخْبر الذهن فهو معرفة أولية بديهية ضرورية ، أما استحضار المعلومات المخزنة في الذهن والترتيب بين أجزائها فيحتاج منا تأملا وتفكيرا ، ونظرا ولا يخلو الإنسان من شيء منه قل أو كثير لمعرفة المجهولات لأن أصله العقل وهو ميزة الإنسان ومصدر تكريمه ومناط تكليفه

وبين تصور الأشياء مجردة وإدراك النسبة بين أجزائها تتوزع معارف الإنسان يقول الأخضري في السلم:

إدراك مفرد تصورا علم
وقدم الأول عند الوضع
والنظر ما احتاج للتأمل
ج

 

ودرك نسبة بتصديق وسم
لأنه مقدم في الطبع
وعكسه هو الضروري الجلي([22])
 

ويرجع ابن جزم طرق تلقي المعارف إلى مسلكين هما: الحواس والعقل (لا طريق إلى العلم أصلا إلا من وجهين: أحدهما ما أوجبته بديهة العقل أو أوائل الحس ، والثاني مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحس،ذلك أن الطفل حين يولد يكون لا علم عنده ولا تمييز لديه إلا ما يشارك فيه الحيوان والنوامي جميعا مما ليس حيوانا من طلب الغذاء لبقاء جسمه على ما هو عليه ولنمائه ، فيأخذ الثدي ويميزه بطبعه غريزيا عن سائر الأعضاء بفمه دون سائر أعضائه كما تأخذ عروق الشجر والنبات رطوبات الماء فأول ما يحدث لها من التمييز ما أدركت بحواسها الخمس والإدراك السادس علمها بالبديهيات ، فمن ذلك علمها بأن الجزء أقل من الكل فإن الصبي الصغير في أول تمييزه إذا أعطيته تمرتين بكي ، وإذا زددته ثالثة سر ، وهذا علم منه بأن الكل أكثر من الجزء ، وكذلك علمه بانه لا يجتمع الضدان فإنك إذا وقفته فسْرا بكي ونزع إلى القعود لأن الجسم لا يكون في آن واحد بمكانين فهذه أوائل العقل التي لا يختلف فيها ذو عقل فصح أنها ضرورات أوقعها الله في النفس ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلا من هذه المقدمات([23]).

ومن هذا المنطلق درج المشتغلون بالعلوم العقلية الخادمة للعلوم النقلية على افتتاح مؤلفاتهم في علمي التوحيد وأصول الفقه بمقدمات تبين مدارك العلوم ودرجات تحصيلها والحد الذى أوجب الشرع من الترقي في الأخذ بالمدارك لتحصيل العلم اليقيني الذي يؤهل صاحبه لفهم الخطاب وتطبيق مقتضاه على الوجه المطلوب.

حكم النظر في التوحيد

اختلف أصحاب الفرق الإسلامية في القدر الواجب من ذلك بعد أن وضعوا ضوابط لمصادر التلقي ووسائله ، وإن لم تتفق رؤاهم على أولوية مدرك واحد للمعارف فإنهم اتفقوا على أن تحصيل المعرفة اليقينية بوجود الله تعالي واجب يقول الجويني: "النظر الموصل إلى المعارف واجب ومدرك وجوبه الشرع وجملة أحكام التكليف متلقاة من الأدلة السمعية والقضايا الشرعية"([24]).

وعلى هذا السنن سار متأخرو الأشاعرة يقول المختار بن بونه في وسيلته

إذْ واجب شرعا على المكلف
حق إلهنا والأنبيا وما
والنظر المفضي إليها أول
وقيل قصده وقيل معرفه
 

 

أن يعرف الواجب والمحال في
يمكن أن يجوز في حقهما([25])
فرض وذا القول عليه عولوا
ما واجب في حقه أن نعرفه
ج

ولا تختلف الفرق الإسلامية في وجوب تحصيل المعرفة اليقينية بوجود الله ، إنما تختلف في مصدر التلقي على ما سنتبين فيما يلي:

مناهج النظر

تتراوح مذاهب الفرق الإسلامية فيما حدوه مصدر للعلم اليقيني بين أربع مناح:

أ - منحى يرى أصحابه أن العلم يأتي عن طريق الخبر المتواتر وحصول اليقين فيه ثابت بالشرع وحده ولا سبيل لإدراكه بالعقل وأصحاب هذا الرأي يعتبرون أن الإيمان بوجود الله وأحوال المعاد مصدره السمع (القران والسنة) وما ثبت عن هذه الطريق لا مجال للعقل فيه وقد تواضع مؤرخوالفكر الإسلامي على تسمية المنتحلين لهذه الرأي (بالحشوية)

يقول ابن رشد "أما الفرقة التي تدعى بالحشوية فإنهم قالوا إن طريق معرفة وجود الله تعالي هو السمع لا العقل أعني الإيمان بوجوده الذي كلف الناس التصديق به يكفي فيه أن يتلقي من صاحب الشرع ويؤمن به إيمانا كما يتلقي منه أحوال المعاد وغير ذلك مما لا مدخل فيه للعقل"([26]).

ولا شك أن التمسك بهذا الرأي فيه تقصير عن إدراك مقصود الشرع في حث أولي الألباب على التدبر والنظر في أسرار الخلق وتنوع المخلوقات والأطوار التي يمر بها الكائن الحي من نحو قوله تعالي: }فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ{ وقوله: }أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ{.

ب - منحي يري أصحابه أن طريق العلم اليقيني هي إعمال العقل بالنظر والاستدلال وتركيب القضايا المشتملة على مقدمات صحيحة وأصحاب هذا المنجي يختلفون في استقلاليته بإدراك الواجبات قبل ورود السمع بها أي اهتداؤه للوجوب والجائز والمحال قبل أن يرد دليل الشرع وعدم قدرته على ذلك ، فذهب المعتزلة إلى أن العقل يهدى صاحبه إلى معرفة وجود الله تبارك وتعالي وأحوال موجوداته قبل ورود الشرع استناد إلى قاعدتهم الوجوب العقلي والتحسين والتقبيح وقد ناقشهم الإمام الجويني في هذا القول بما يلي: "... قلنا هذا الرأي الذي ألزمتونا في الشرع المنقول ينعكس عليكم في قضايا العقول فإن الموصل إلى العلم بوجوب النظر من مجاري العبر" يقول المختار ولد بونه في الوسيلة:

وقول أهل الاعتزال المعرفة
 

 

واجبة بالعقل فلتزيفه
 

واعتبر الأشاعرة أن النظر العقلي فى المعرفة اليقينية بوجود الله تبارك وتعالي لا يطلب إلا بعد ورود الشرع ، وأمر المكلفين بالاستدلال بالمخلوقات على وجودخالقها وقدرته ووحدانيته.

ونعود مرة أخرى إلى الجويني حيث يقول: "شرط الوجوبعندنا ثبوت السمع الدال عليه مع تمكن المكلف من الوصول إليه ، فإذا ظهرت المعجزات ودلت على هدف الرسل الدلالات فقد تقدر الشرع واستمر السمع المنبئ عن وجوب الواجبات وحظر المحظورات ولا يتوقف وجوب الشيء على علم المكلف به ولكن الشرط تمكَن المخاطب من تحصيل العلم به"([27]).

غير أن الأشاعرة هنا في ردهم مصدر المعارف للشرع وتقييدهم إيجاب النطر العقلي به فإنهم مع ذلك سلكوا طريقا أبعد عما قصده الشارع من تبسيط خطاب الجمهور المستهدفين بالعقائد والذى لم يشترط فيه سوى ما يستوى العالم والعامي في فهمه دون نظر أو استدلال يخرجهم عن حدود الفطرة وما جبلت عليه، إذْ هم عندما يوجبون الاستدلال العقلي لحصول العلم الجازم بوجود الله يلزمون أعوام الناس ببناء الأقيسية التي لا يهتدي إليها إلا من هم على دراية بالصناعة الكلامية كقولهم إن العالم يتألف من أعيان وأعراض وما هو متألف محدث ، ولكل محدث صانع فللعالم صانع مخالف له إلى غير ذلك من القضايا التجريدية التي تعيي عقول أصحاب الصنعة فكيف بالعامي فتكليفه بها فيه الكثير من التجوز.

وقد رد على متأخري الأشعرية القول به مع أن عليه مستقرهم وهو الذي اعتمده أشياخهم في التأليف يقول المقري

أول واجب على المكلف
 

 

إعماله للنظر المؤلف
 

لكن النظر وإن لم يوقف عليه الشرع كمال إيمان المخاطبين به لما روي عن رسول الله e في تقريره عقائد الصحابة دون إلزامهم الدليل ولا سؤالهم عنه ، ففي حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: كانت لي جارية ترعى غنما لي قِبل أحدِ والْحوانية فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون لكني صككتها صكة فأتيت رسول الله e فعظم ذلك علي قلت يا رسول الله أفلا اعتقها؟ قال ائتني بها فأتيته بها فقال: أين الله قالت في السماء قال من أنا قالت: أنت رسول الله e قال: اعتقها فإنها مؤمنة"([28]).

فليس فى الحديث بحث عن الدليل ومع ذلك أمر الله به العلماء وحضهم عليه لإلجام المعاندين وإقامة الحجة عليهم ولتعليم الجاهلين وإزالة الشك والارتياب عنهم .

ج. منحى المعرفة الإلهامية: يرى أصحاب هذا الرأي أن المعرفة شيء يلقي في النفس عند تجردها من العوارض الشهوانية ، وهذا مذهب المتصوفة الذين لا تعلق لهم بالنظر ، وقد ذهب العلماء إلى أن الإلهام لا سبيل لإثبات شيء به من أمور العقيدة إلا ما نقل عن الرسول e لأنه قد علم صدقه ، جاء في جمع الجوامع ، "مسألة الإلهام إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر يخص به الله تعالي بعض أصفيائه وليس بحجه لعدم ثقة من ليس معصوما بخواطره خلاف لبعض الصوفية في قوله إنه حجة في حقه ، أما المعصوم فهو حجة في حقه وحقه غيره إذا تعلق بهم كالوحي"([29]).

وقد انطلق المتصوفة في الاستدلال على مذهبهم من ظواهر بعض الآيات الداعية لمجاهدة النفس في الوقوف عند حدود الشرع لما يترتب على تلك المجاهدة من علم ويقين على نحو قوله تعالي: }وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ{ }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا{ وقوله: }إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً{.

غير أن هذه الآيات لا تدل بالقطع على ترك النظر والاستدلال بقدر ما تدعو للمجاهدة لحصول الكمال.

ثم إن المجاهدة لا تحصل إلا عن معرفة بما يجاهد فيه وبه ومن أجله وكذلك التجرد من العوارض الشهوانية طريق لكمال العقل وعدم انشغاله والتشويش عليه فيما يقطعه عن الفكر والنظر ، يقول ابن رشد " إن هذه الطريقة وإن سلمنا بوجودها فإنها ليست عامة للناس بما هم ناس ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر ولكان وجودها في الإنسان عبثا والقرآن كله إنما هو دعاء إلى النظر والاعتبار"([30]).

المحور الثالث: أسلوب القرآن ومنهجه في تقرير وجود الخالق

لابد ونحن نتلمس طريقنا للمنهج الذى رسمه القرآن فى تقرير عقائد المخاطبين به أن نبين طرق تركيب الأقيسة عند أصحاب النظر العقلي وما اعتبروه منها محصلا العلم اليقيني لنترك للقارئ وظيفة المقارنة ومن ثم استنتاج أن أغلب ما عد مستنسخ من المنطق الصوري بعد ترجمته تضمنه القرآن فى حجاجه المعاندين.

مواد الأقيسة وطرق تركيبها

انتهج من لهم الأهلية من علماء الإسلام طريقا فى البحث العقلي الذى يعضده النقل انطلاقا من الظواهر المشاهدة والأمور المجرية بالتحليل والمقارنة والاستنتاج الذي طريقه القياس المنطقي المفيد لليقين ولا يكون كذلك إلا إذا كانت مقدماته يقينية مثل قول القائل العالم متغبر وكل متغير حادث فيلزم من هذه المقدمة إذعان السامع إلى أن العالم حادث . وقد أوصل النظار المقدمات اليقينية لستة هي:

1.

2.

3.

4.

5.

6.

فاستعمال هذا النوع من الاستدلال لا يخالف منهج القرآن ولا دعوته ، إلا أنه خاص بالراسخين من أهل العلم والنظر.

منهج القرآن الدعوي

قد انطلق القرآن من التفريق بين عالمي الغيب والشهادة ، ورد علم أحوالهما إلى الله قال تعالي: }هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ{([33])، وقال: }اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ{([34]).

}اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ{([35]).

فالغبي مما يختص الله بعلمه ويطلع عليه من يشاء من رسله دون أن يكون لهم قبل الوحي علم به قال تعالي على لسان نبيه: }وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{([36]).

وإعمال العقل فيه بالتدبر والاعتبار لحصول الطمأنينة وامتثال الأمر مع كمال التفويض والتسليم.

أما المشاهد المحسوس فعلم تفاصيله وأطواره وعلله فمما اختص الله به ويهتدي له العقل بتوفيق منه عن طريق المشاهدة والتجربة وقدمنا مواقف الفرق الإسلامية في هذا الجانب.

وركزت آيات القرآن على تحريك كوامن الفطرة للتأمل في أسرار المخلوقات وطرق خلقها وتطورها ونمائها والاختلاف بين أجزائها من الذرة إلى الفيل وإحكام نظام الكون واتساق سير أفلاكه ومواقع نجومه ومنازل كواكبه ، لكل كوكب فلك خاص يسير فيه دون أن يعرقل غيره أو يطغي عليه: }لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِى لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ{ وجعل ذلك مناسبا لحياة الإنسان وسير شؤونه ، قال تعالي: }وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ{.

وقال: }وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ{ وقال: }وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ{.

ومن منهج القرآن أن ينطلق من ضرب الأمثلة بما يشاهد من تغيرات في المحيط الحاضن للانسان ليلفت نظره أن ما يرى بتصريف إله قادر متفرد بالتدبير والإرادة على شاكلة قوله تعالي: }وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ{([37]).

وفي بعض المواطن يدعو القرآن الإنسان للتأمل في مصدر الخلق متحديا الأرباب المشْركين به في العبادة أن يأتوا بأصغر مخلوقاته ، قال تعالي: }يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ{([38]).

وقال جل من قائل: }فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ{([39]).

وقال: }فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ{([40]).

يتضح مما سبق أن المنهج القرآني سار في تقرير العقائد بأسلوب تقريري تمثيلي يستوي في استيعابه وفهم المقصود منه جمهور المخاطبين بالتكاليف الشرعية وهم السواد الأعظم بنفس الطريقة التي يتلقاه بها عن استنباط وتحليل العالم المتبصر الذي خبر الظواهر وعقل عللها ، فمثلا القارئ والسامع لقوله تعالي: }فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ{ يشعر بإيمان فطري ينبع من تكرار التجربة والمشاهدة لأصله التكويني.

وهو نفس الشعور عند عالم الأحياء المتخصص الواسع الإطلاع بفعل المخابر ووسائل الكشف المتطورة ، فسبحان القائل عن رحم الأم }فَمُسْتَقَرٌ وَمُسْتَوْدَعٌ{ وتضمن القرآن في حجاجه للمعاندين أساليب للمناظرة تعتمد الأقيسة والبراهين العقلية وهو ما سنتعرض له في الفقرة التالية:

أساليب القرآن البرهانية

من أساليب البرهنة في القرآن أشكال من الأقيسة العقلية تقوم على مقدمات يقينية ونتائج قطعية مثل:

أ. القياس الاقتراني وهو ـ حسب تعريف ابن سينا ـ قول مؤلف من أقوال إذا سلمت لزم عنها قول آخر بالذات اضطرارا وهذا القول الآخر ليس مصرحا به ولا بنقيضه في المقدمات([41])

وقد ورد في القرآن لقطع حجج المعاندين وإلجامهم إذ فيه كما يقول الزركشي استنتاج للنتيجة من مقدمتين مثل قوله تعالي: }وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ{([42]).

ففي الآية مقدمتان ونتيجة: اتباع الهوى يوجب الضلال ، والضلال يوجب سوء العذاب ، فالنتيجة أن اتباع الهوى يوجب سوء العذاب([43]).

وكذلك قوله تعالي: }فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ{([44]) فالكوكب آفل وربي ليس بآفل فالكوكب ليس بربي فهذا قياس اقتراني من الشكل الثاني([45]).

ب. القياس الاستثنائي: وهو يختلف عن الأول في كون النتيجة ونقيضها مصرحا بهما في المقدمات ومن أمثلته قوله تعالي: }وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ{([46]).

و الحال أنهم لم ينقضوا عنه فدل ذلك على انتفاء صفة الفظاظة وغلظة القلب عنه e.

ج. القياس المضمر: وهو شكل من أشكال الاستدلال غير المباشر ينتقل فيه الذهن من العام إلى الخاص ويصرح فيه بالمقدمة الصغرى فقط دون الكبرى مع وجود قرينة تشعر بالمحذوف ، ومما ورد في القرآن من هذا النوع قوله تعالي في رد ادعاء النصارى أن المسيح ابن الله ـ تعالي الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ـ لأنه خلق من غير أب ، قال: }إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ{.

فهذا القياس لم تذكر فيه إلا مقدمة واحدة وهو على الشكل التالي: آدم خلق من غير أب وهو غير ابن لله باعترافكم فلو كان عيسي ابنا بسبب عدم الأبوة لكن آدم أولي.

د. قياس الخلق: وقد عرفه ابن سينا بقوله: "الذي تبين فيه المطلوب من جهة تكذيب نقيضه"([47]) ويسمى عند بعض المناطقة ببرهان التفنيد لأنه يجر الخصم إلى التناقض مع نفسه فتسقط حجته ويعرف في الأوساط الكلامية بدليل التمانع([48]) قال تعالي: }لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ{.وقال: }مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ{.

في الآية الأخيرة دليل استنبطه بعض علماء الكلام وسموه "دليل التوارد" ومثل قوله تعالي استدلالا على أن القرآن من عند الله }وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً{ .

ففي كل هذه الآيات يبرز القرآن تناقض الخصم بإيراد نقيض حجته([49]).

هـ. قياس التمثيل: وهو أن يقيس المستدل الأمر الذي يدعيه على أمر معروف مع ذكر الصفة الجامعة بينهما مثل قياس إعادة الخلق يوم القيامة على ابتدائه مثل قوله تعالي: }كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ{ وقوله: }كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ{ وقوله تعالي: }يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ{.

ويذكر المفسرون أن أبي ابن خلف أو العاص بن وائل جاء بعطام بالية ففتها وذرها في الهواء فقال يا محمد أ فيحيي الله هذا بعد ما رم وبلي؟ فأنزل الله تعالي: }قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ{ فعلَم الله سبحانه وتعالي كيفية الاستدلال برد النشأة الأخرى إلى الأولي وجمع بينهما بعلة الحدوث([50]) ثم نبه على تبدل الأعراض والجمع بين النقائض بقوله: }الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ{.

وبعد فإن القرآن سلك في تقرير عقائد الجمهور من الأساليب ما يخاطب العقل في أعلا تأملاته وكذلك ما يخاطب الفطرة والعواطف في سهولته وبساطته .

 

الخاتمة:

حاولت الدراسة أن تجيب عن بعض الأسئلة التي أثارتها إشكالية البحث، مستنتجة أن البحث في العقيدة جاء استجابة لتطلعات جيل ما بعد دولة الوحي لنسق معرفي يتكامل فيه الوحي السماوي مع العقل البشري بعد أن اتسعت دائرة المستهدفين بالشريعة الإسلامية.

ولم يعد المتلقون لها ساكنة المجال البدوي وحدهم –الذين قدمنا أن لا عهد لهم بالحضارة قبل الإسلام ولا بالعلوم العقلية- وقد فرض المتلقي الجديد ضرورة الأخذ بمناهج للحجاج والبرهنة تدفع خصوم العقيدة من الخارج كالمثنوية وغيرهم بنفس أساليبهم العقلية، وتقدم حجج النقل في قالب العقل دفاعا عن عقائد الجمهور وردا لادعاء الخصوم.

وفي أسلوب محاججة القرآن لمعاندي الرسل واعتماده البراهين العقلية لتأكيد ما يخبرون به عن النشأة والبعث والجزاء ما يبرر الاستناد على علوم العقل ومناهجه لتدعيم النقل.

وغير خفي أن الخلاف بين صحابة الرسول e حول الأحقية بخلافته غذى البحث في المجال العقدي لما سبب من إحراج لعامة المسلمين وخاصتهم ترجمته الاستفتاءات الدينية التي أسست لقضايا البحث العقدي في الإسلام.

 

فهرس المصادر والمراجع:

الفوائد الكفيلة بمعرفة الوسيلة: محمد الحسن ابن أحمد الخديم، طبعة أولى 1416-1996

جمع الجوامع: تاج الدين ابن السبكي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع,

المنية والأمل: ابن المرتصي

الفتاوى: ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن محمد بن قاسم، طبعة الرباط، المغرب.

الفصل في الملل والأسواء والنحل: ابن حزم، دار الفكر 1400/1980

الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة: ابن رشد،

النجاة ابن سينا: ؟؟

الهداية تحقيق الدكتور محمد عبده ابن سينا: ؟؟؟

الإمامة والسياسة: ابن قتيبة،

البداية والنهاية: ابن كثير، دار الفكر، بيروت، 1398هـ/1978م

الإبانة في أصول الديانة: أبو الحسن الأشعري، تحقيق فوقية محمود، طبعة ثالثة، دار الكتاب، القاهرة 1987م

الحلية: أبو نعيم.

مباحث في علم الكلام: أحمد محمود صبحي، رسالة مرقونة، جامعة محمد الخامس 1990

المقالات: أبو الحسن الأشعري، تحقيق: الدكتور عبد الرحمن بدوي.

الفرق بين الفرق: البغدادي.

الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد: أبو المعالي الجوينبي، تحقيق: محمد يوسف موسى علي عبد المنعم، مكتبة الحانجي، طبعة 3

ربيع الفكر اليوناني: د. عبد الرحمن البدوي، طبعة رابعة، النهضة المصرية 1969

مسائل العقيدة ودلائلها: رزق الحجر، سلسلة دعوة الحق 1427-2007

البرهان في علوم القرآن: الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة 3 دار الفكر 1400-1980

المستصفي: الغزالي، الطبعة الثانية الأنجلومصرية 1955

معيار العلم في المنطق الحلبي: الغزالي.

الكشاف: محمود بن عمد: الزمخشري، طبعة أولى، دار الفكر العربي 193

الملل والنحل: الشهرستاني، طبعة لندن 1908

الفقيه والسلطان: وجيه كوثراني.

السلم المنورق في علم المنطق: عبد الرحمن الأخضري، طبعة أولى 2001

 

*- أستاذ العقيدة وعلم الكلام في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية.

[1]- النبأ، الآية: 9-11

[2]- إشارة لحديث "إنما الأعمال بالنيات".

[3] - أبو الحسن الأشعري الإبانة في أصول الديانة / ص: 6-7

[4] - ابن تيمية الفتاوى / ص: 17-44

[5] - الملل والنحل ج1/ ص: 24

[6] - من تلك الآيات قوله تعالى ثناء على المسلمين « وأمرهم شوري بينهم » وقوله e « ألا ننازع الأمر أهله وقوله « اقتدوا بالذين من بعدي»

[7] - وقوله مروا أبا بكر فليصل بالناس والأئمة من قريش

[8] - الأشعري المقالات ج1/ ص: 49

[9]- الزخرف، الآية: 58

[10] - ابن كثير البداية والنهاية / ج 7/ ص : 281

[11]- المائدة، الآية: 95

[12] - أبو نعيم الحلية

[13] - ابن تيمية الفتاوى ج3/ ص: 279

[14] - أحمد محمود صبحي مباحث في علم الكلام / ص: 91

[15] - البغدادي الفرق بين الفرق / ص: 190

[16] - تنسب هذه المقولة لإمام الفقهاء أبي حنيفة النعمان

[17] - وجيه كوثراني ـ الفقيه والسلطان / ص: 10

[18] - ابن قتيبة الإمامة والسياسة ج2/ ص: 41

[19] - محمود أحمد صبحي مصدر سابق / ص: 92-99

[20] - الغرق بين افرق / ص: 199

[21] - ابن المرتصي ـ المنية والأمل / ص: 8

[22]- الأخضري: السلم المنورق في علم المنطق، شرح محمد محفوظ ولد الشيخ فحف، ص: 3 طبعة أولى 2001

[23] ـ ابن حزم الفصل في الملل والنحل ـ ج1 – ص4 – 7

[24] ـ الجوينبي ـ الإرشاد ـ ص8

[25] ـ ابن أحمد الخديم ـ الفوائد الكفيلة بمعرفة الوسيلة ـ ص59

[26] ـ ابن رشد الكشف عن مناهج الأدلة ـ ص151

[27] ـ الجويني ـ المصدر السابق ـ ص11

[28] ـ مسلم: الجامع الصحيح، كتاب المساجد الحديث 537

[29] ـ ابن السبكي ـ جمع الجوامع ـ 2 ـ ص290

[30] ـ ابن رشد ـ الكشف عن مناهج الأدلة ـ ص117

[31] ـ الغزالي ـ معيار العلم في المنطق

[32] ـ الغزالي: المستصفي ـ ص30

[33] ـ الحشر22

[34] ـ الرعد الآيات 8 ـ 10

[35] ـ السجدة 4 – 8

[36] ـ الأعراف 177

[37] ـ يس الآيات 33 – 40

[38] ـ الحج الآيات 73 – 74

[39] ـ الطارق الآيات 5 – 8

[40] ـ عبس الآيات: 24 – 32

[41] ـ ابن سينا ـ الهداية ـ تحقيق الدكتور محمد عبده ـ ط2 ـ ص91

[42] ـ ص.26

[43] ـ رزق الحجر مسائل العقيدة ودلائلها ـ ص92

[44] ـ الأنعام 76

[45] ـ الزركشي البرهان في علوم القرآن ـ المجلد 2 ـ ص46

[46] ـ آل عمران 159

[47] ـ ابن سينا ـ النجاة ـ ص55

[48] ـ د. عبد الرحمن البدوي ـ ربيع الفكر اليوناني ـ ص122

[49] ـ رزق حجر مسائل العقيدة ودلائلها ـ ص95

[50] ـ الكشاف ـ المجلد الثاني ـ ص95