Image removed.

إعلانات

المعهد العالي للد ارسات والبحوث الإسلامية : حقائق تاريخية... وذكريات طلابية

تعود فكـرة إنــــشاء المعهــــد العاالي للدارســــات والبحـوث

الإسـلامية (م ع د ب إ) إلـى الزيـارة التاريخيـة التـي قـــــام

بهـا الملك فيصـــل ابن عبد العزيز آل ســــعود لموريتــانيــا

بدعـوة مــن الرئيس المختــار بن داداه ـ رحمهمــا اﷲ ـ سنة

1972م  .

كان لدى السعوديين حينئذ انبهار بالعلماء الـشناقطة الـذين يـأتونهم فـي مواسـم الحـج، والـذين يقيمون منهم في الحرمين.

وهو انبهار تعزز وتأكدت مبرارته باكتشافهم حقيقة هذا القطرالموريتاني وأنه بلد قائم بذاته وجغرافيته الواسعة وتاريخه

العريق وشعبه الملتحم بثقافــة عربية إسلاميــة متدفقة، وذلك أثناء وبعد تلك الزيــارة التي اكتسبت "تاريخيتها" من هذا

المعنى بالذات.    

ومن النتـائج الإيجـابية الكثيرة لتلك الزيارة الاستكشافية تكفـل المملكة ببناء صرح علمي تنتظـم فيه الد ارسـة المحظرية

ومتعلقاتها العلمية في بوتقة عصرية ذات طابع رسمي يسهل استفـادة شيوخ وطلاب المحـــاظر من المنــاهج والمعارف

الحديثة والشهادات العلمية، ويتيح اسـتفادة الدولـة والمجتمع من علم هؤلاء وعملهم.  

وهكذا تم إنشاء المعهد العالي للد ارسات والبحوث الإسلامية، كمؤسسة علمية ذات مدخل محظري مفتوح (مسابقة حرة)

ومخرج جامعي مضبوط بشهادة الإجازة الكاملة (الليصانص).  

وكـان ذلك في واقـع الأمر واسطة "مقبولة" بـين جامعة إسلامية يبـذلها السعوديون، وبين معهد أهلي متوسط شبه رسمي

(بعثًا وترفيعًا لمعهـد أبـي تلميـت) كمـا يـرى بعـض الـساسة الموريتـانيين الذين ما ت ازل الفرنســة حينئذ تطبع عــــلى

قلوبهم مع ألسنتهم!.  

وبينما أدى تحفظ هؤلاء المتوجسين إلى إتباع المعهد لوصاية قطاع الشئون الإسلامية الضعيف أصلا ودوما (وما يازل

رهينا له إلى اليوم) استطاع المؤسسون المباشرون للمعهد منحه صفات أعلى من خلال تسميته ووضـع مناهجـه

العلميـة ونظامـه الأساسـي، بالإضـافة إلـى البناية الفسيحة الراقية العمران التي نال عليها حسد ومضايقة المؤسسات

الرسمية الأخـرى التـي ظلت تتطفل على مدرجه الكبير وباحاته الواسعة لإقامة نشاطاتها المخلفة، بل حاول بعضها

(جامعة نواكشوط) اعتصار البناية كلها وٕإخارج المعهد إلى مكان آخر "مناسب"، لولا أن النصوص الرسمية صريحة

في أنها عطية خالصة للمعهد مبذولة لتحقيق أهدافه.  

انطلقت الد ارسة في "م ع د ب إ" بتنظيم مسابقة مباشرة نجحت فيها كوكبة من طلاب العلـم المحظريين في السنة

الد ارسية 78/1979م   .

وفي فترة وجيزة استطاعت إدارة المعهد أن تجتذب إليه نخبة حقيقية من العلماء من الأساتذة ومن الطلاب، كما هو

معروف.    

وهنا سأتجاوز إلى السنة التي تخرجت فيه ا أول دفعة من ط لاب "م ع د ب إ" وه ي 82/1983م ،لأنها هي ذات

السنة التي حظيت فيها بالانضمام إلى صفوف طلابه.  

كان أول شيء فاجأني في مسابقة المعهد المباشرة هو كثرة المترشحين وأن من بينهم أساتذة وعلماء لا يحـق لأمثـالي

منافـستهم. وفـي الحقيقـة لـم أكـن علـى اطـلاع كـاف بـأحوال المعهـد قبـل ذلك، بل لم أكن متعلقا بالنجاح والدخول فيه.

وحتى بعد نجاحي الجيد في المسابقة لم أجد الحماس الكافي للانخارط في الد ارسة فيه فوار، فكنت أغيب عن بعض

الحصص في مبتدأ الد ارسة أول السنة الأولى.  

لكني حين انتظمت الد ارسة وشهدتُ بعض دروسها ال ارقية انجذبت إليها تلقائيا، فوجدت جنات من العلم طوبى لمن

رتع فيها، مع كوكبة من الطلاب الأفذاذ في كل مضمار.  

كان الطلاب في تلك المرحلة من الناحية الإدارية فئتين: فئة "المنتسبين" وأكثرهم علماء وأساتذة موظفون يبتغون

الإجازة الأكاديمية، وأذكر منهم: الشيخ محمـد فاضـل ولـد محمـد الأمـين والـشيخ محمد المختار كاكيه والشيخ محمد

يحيى ولد سيدي أحمد ومحمد عبد الرحمن ولد محمد محمود ومحمد المصطفى ولد الندى...الخ    

أما الثانية فهي فئة الطلاب "الرسميين" وهم الأقل عددا، ولكن من بيـنهم علمـاء وأدبـاء كبـا ار أذكر منهم القضاة:

الداه ولد حمين ومحمد ولد أحمدو ولد عابدين ومحمد سالم ولد يحظيه ومحمد سالم ولد باركل

والشيخ ولد داهي والفال ولد محنض باب... الخ، والأساتذة: محمد محمود ولد الرباني وعبداﷲ ولد أمين وعبد اﷲ

السالم ولد المعلى وشغالي ولد المصطفى...الخ  .

كانت الد ارسة في المعهد حينها سنتين مشتركتين بين جميع الطلاب، يختار الطالب بعـدهما أحد تخصصين اثنين:

شعبة القضاة أو شعبة الأساتذة. وكان هذا التقسيم، الذي له تسميةأكاديمية لا أتذكرها، تمليه حاجة الاكتتاب الرسمي

الذي كان مضمونا للخريجين في القضاءوالتعليم على التوالي.  

إلا أنه كانت لذلك الاكتتاب الفوري تكاليف د ارسـية ومهنيـة صـارمة علـى الطـلاب: فقـد كـان يجب على الطالب

تقديم بحث دراسي علمي عند انتهاء السنتين المشتركتين (يسمى البحث النصفي، ولا يقارن مطلقا بالبحوث النهائية

التي نشاهدها اليوم!)، وفي السنة الرابعة يخضع الطالب للتدريب العملي، في الثانويات والإعداديات (معا) بالنسبة

للأساتذة، وفي المحاكم والنيابة بالنسبة للقضاة.  

رجال المعهد  

في هذه الفترة بلغ "م ع د ب إ" أوج عطائه العلمي علـى مـستوى نـوع الأسـاتذة وكثافـة وتنـوع البرنامج الأكـاديمي.

فقـد جمعـت فـصوله الد ارسـية، ربمـا للمـرة الوحيـدة فـي تاريخـه، أكبـر العلمـاء وألمع الأساتذة في البلد. فقد كان

هناك عالم العصر، بل عالم الدنيا بتاريخها كله، العلامة محمد يحيى بن الشيخ الحسين (يحيان)، والعلامة محمد سالم

بن المحبوب، والعلامة محمد سالم بن عدود، والعلامة الناجي بن محمود... والأساتذة العلماء: إسلم ولد سيد المصطف

وٕابارهيم ولد يوسف بن الشيخ سيديا وجمال ولد الحسن، ومحفوظ ولد لماربط، وبوميه ولد ابياه... الخ  .

كان المعهد بهـؤلاء النخبـة النـادرة مـن العلمـاء المنتهـين وأولئـك الطلبـة النـابهين مجـرة علـم لا يحرم أجهل الطلاب

وأدناهم همة الاستفادة من دروسهم ومدارستهم.  

كان الشيخ يحيان شمس تلك المجرة كلها ودوحـة تلك الجنة، كان يأتي في أحسن هيئة ،سمتا وثيابا وسكينة ووقارا

... فيجلس أمام جمع الطلاب ـ لا يتخلف عنه أحد ـ وليس على الطاولة أمامه من شيء إلا ساعة معصمه الأنيقة.

وبعد مفاكهة تمهيدية مع الطلاب يقول:  

"بسم اﷲ. باب، كذا أو فصل كذا... من حيث توقف آخر درس لذلك القسم، دون غيره من الأقسام والمراحل الأخرى،

ولو من السنة الماضية! لكأن لجنة تربوية متخصصة وضعت ودونـت كـل ذلـك بتفصيل دقيـق! ولـم يكـن ذلك منـه

حفظـا فقـط  مـع قـوة حفظـه  بـل كـان د ارية كاملة وفهما ثاقبا. ذلك أنك حين تقارن دروسه للسنوات المختلفة

والأقسام المتعـددة تجـد صـياغة مختلفة وأسلوبا آخر وتبسيطا أو تعميقا مختلفين باختلاف المرحلة الد ارسية!

سواء ذلك فـي الفقـه أو في أصوله أو في الحديث وعلومه وروايته ورواته. أما النحو فهو كذلك فيه ولكن ضـاق

عنـه جدوله. وكان يمازحنا بالقول: "وددت لو درستكم النحو... أخشى أن أنساه!".    

وفي فصل آخر أو في نفس الفصل يطل محمد سالم بن المحبوب بعمامته البيضاء الجميلةووجه ه النيرالذي لا تفارقه

الابتسامة أبدا، فيمل ي م ن درر علم ه وي صغي إل ى الأس ئلةوالنقاشات بعناية وسرور، ثم يجيب عليها بأسلوبه

الأخـاذ بمـا فيـه مـن الهـدوء والإشـا ارت الأدبيـةوالتلميحات العلمية...  

أما نجم المعهد المتـألق وبـدر بـدوره المـشرق فهـو ذلـك الرجـل الـذي لا يعرفـه الكثيـرون؛ ذلـك العالم الذي غمره

التواضع واستماله الأدب واستغرقه الفكر الإسلامي وأنهكه جهد الإصلاح الاجتماعي... إنه الناجي بن محمود.  

كان التدريس في "م ع د ب إ" خاتمـة كفـاح طويـل خاضـه الرجـل مـن أجـل بـث العلـم ونـشر الوعي ابتداء من

النيجر ومروار بمدينته "كرو" التي أسس فيهـا معهـدا ارئـدا لتعلـيم البنـات حـسب منهج علمي إسلامي حديث،

مما عرضه لمصارعة معارضين كثر لهذا التوجه.  

كان تواضع الناجي تواضعا طبيعيا جبل عليه وجعله صديقا لكل طالب قبل أن يكون أستاذه. وكان متفتح الذهن

سريع البديهة شاعرا مطبوعا وكاتبا مبدعا ومثقفا موسوعيا. وكان مع الطلاب والسائلين شديد الصراحة والانفتاح.

أتذكر من أقواله المأثورة في هـذا: "الـشريعة مـا فيهـا شي يوجعها"، لا تخفي شيئا ولا تتحفظ من علاج أي شيء!.  

وخير ما يلخص سلوك هذا العلامة مع طلابه وينبئ عـن شـاعريته المتدفقـة قـصة المـشاعرة التالية:  

ففي أواخر إحدى السنين الد ارسية تمالأ بعض الطلبة على الحضور قبل الوقت، وكتـب أحـد شع ارئهم الكثيرين

على لوحة الدرس الأبيات التالية:  

يا أيها الأستاذ إن دفاتري * صفحاتها أطت من الإملاء  

وأصابعي كلت لطول دؤوبها * وأصابها خدر من الإعياء  

ومقاعدي قدت ثياب مقاعدي * ومسامعي صمت من الإصغاء

 ومداد أقلامي يجف  معينه * كنضوب فكري أو نضوب دمائي  

وأ ارك أنت تعبت يا أستاذنا * في الدرس من عرض ومن إنشاء

واليوم أرجو أن تكون مخلصي * ومحرري من هذه الأشياء

وتريح نفسك يا بصيرة خاطري * من ورطةالتحضير والإلقاء  

كانت الأبيات موجهة في الواقع لجميع الأساتذة، ولذلك كُتبـت فـي طـرف قـصي مـن الـسبورة حتى لا تمحى

مع ما يمحى من الدرس. وقد أجاب بعض الأساتذة الشيوخ عليها إجابات مبدعة طريفة، لكن جواب الشيخ

الناجي ولد محمود كان الأول والأسرع قولا وعملا حيث كتب:  

قدمتمُ نظما أرق ن داء * مثل النسيم انساب فوق الماء  

والشعر أشفع شافع فلتطلبوا * بلطيفه ما في يد الشعراء  

الشعر يحيي من مشاعر أهله * ما قد أماتتهُ يد الإعياء

وشرحتمُ أحوالكم مستعطفي *  ن ضمائر الرحماء والأدباء  

وٕإذا المطالب أبرزت من واق ع * فازت لدى العقلاء بالإصغاء  

وأرى الإدارَةَ بابَ هذا الشأن فأ * توا الأ مر من أبوابه أبنائي

لكن تقديم الدروس لغير مش * تاق إليها الآن محض عناء

إن الدروس على أساس تفاهم * تبنى وتحت الأخذ والإعطاء

نظرا لهذا أرى من واجـبي * إيقافها فوار ب لا إرجاء  

لت ارجع وا بتأمل ما في الدفا * تر بعد أن أطت من الإملاء  

وتقبلوا شع ار أتى من مت عب * بتعاقب التحض ير والإلقاء  

والحقيقة أن للمعهد رجالا آخرين، لهم جهود محمودة في تأسيس وتحقيق مشروع المعهد نفسه؛ مثل المرحوم

أحمد بن عبد اﷲ، ومثل مديره الأول الأستاذ العلامة إسلم ولد سيدي المـصطف، الذي أجزم أنه من الأطر

القليلة المتميـزة في الجمع بين الإدارة الأكاديمية الفعالة والتدريس العلمي الأخاذ. فهذا الرجل مع ازده العلمي

والمحظري الغزير متضلع من الفكر المستنير وبارع في الإلقاء والإقناع بتركيز ووضوح في أكثر المسائل

الفكرية والفقهية تشعبا وتعقدا.  

ومع نشاط وفلاح جناح التدريس وتألقه، فقـد رفـرف جنـاح البحـث العلمـي فـي المعهـد العـالي أيضا حيث

تَزود بمكتبة غنية تُغـذى كـل سـنة بجديـد الكتـب والم ارجـع مـع قاعـة واسـعة للمطالعـة ونظام قوي

للإعارة، ثم قسم للمخطوطات أنقذ كمـا هامـا مـن أصـول المخطوطـات الثمينـة وجمـع صوَرَ أخرى نادرة.  

 

مجلة الشعاع  

كانت مجلة الشعاع مبادرة قدمتُها مع القاضي والأستاذ العبقـري والأديـب الأريـب والإعلامـي الكبير

أحمد سالم ولد مولاي اعل الذي كان يسبقني بسنتين في المعهد.    

وربما كانت خلفية عملنـا فـي الـصحافة والإعـلام أهـم دافـع إلـى بلـورة مـشروع رحبـت بـه إدارةا

لمعهد وشجعته رغم أن النشر عموما كان حينئـذ محظورا خارج وسائل الإع لام الرسمية المحدودة.

وكان الإعلام الحر لا وجود له إلا على جد ارن وأبواب مراحيض مجمـع دوارت الميـاه الكبير في

مباني "م ع د ب إ"، أو المنشوارت السرية (Tracts) التي تلقى هنا وهنالك!.  

إلا أن الصبغة الثقافية/ المحظرية البحتة للمجلة فتحت لها الطريق لتكون ال ارئدة الأولى فـي هذا

المجال حسب علمي.  

لكن وضع المشروع وقبول الإدارة لرعايته كان المرحلة الأسهل. وكانت المادة العلمية والصحفية

وفيرة، ولكن الصعوبات الفنية كانت هائلة. وأهم تلك الصعوبات حينها الطباعة، لأن المطبعة الوطنية

هي الوحيـدة فـي الـبلاد القـادرة علـى طباعـة وٕإخـ ارج مطبوعـة مقبولـة (ولا مجـال للجودة) إلا أنها

كانت مكرسـة لطباعـة جريـدة الـشعب والمنـشوارت الحكوميـة عمومـا ،ناهيـك عـن أسعارها الباهظة

ومواعيدها المخلفة!   .

في النهاية وجدنا أفضل الأسعار وأقرب المواعيد لدى مطبعة صغيرة تسمى "المطبعة الجديدة" تملكها

عائلة لبنانية في العاصمة.  

وحين قدمت لهم مادة العدد الأول فوجئت بأن ليس لديهم سوى صفيف (طباع) واحد لا يستطيع قراءة

العربية ما لم تكن حروفها مطبوعة بوضوح!  

وهكذا ليتمكن الرجل من طباعة أي نص لا بد أن يقدم له مطبوعا بالآلة الكاتبة على الأقل! ولحسن

الحظ فقد كنت أنا طباعا مطبوعا أعشق الطباعة، وكذلك كان أحمد سالم طباعا ماه ار. فزودَنا المعهد

بإحدى آلاته الكاتبة وطبعنا عليها كافة مواد العدد الأول وقدمناه لتلك المطبعة ليخرج العدد بغلاف

ملون تلوينا غير حقيقي (الحروف فقط)، في غرة رمضان 1403ه(يوليو 1983م)  .

كان ذلك العدد الأول مبهار من حيث المضمون على الأقل ،وقـد التزمـت المجلـة بمـستواه أو أفضل

في أعدادها الموالية.  

ولمعرفة هذا المستوى يكفي إلقاء نظرة على فهرسة العدد الأول من حيث كُتابه، مثل: الشيخ محمد

يحيى ولد الشيخ الحـسين، محمـد سـالم ولـد عـدود، محمـد سـالم بـن المحبـوبي، ابـين ولد ببانا، أحمد

ولد عبد اﷲ، حمدا ولد اتاه، محفوظ ولد لم اربط، سيد احمد ولد الدي، جمال ولد الحسن، هيبتنا

ولد سيدي هيبه، محمد سالم ولد زين، محمد عالي ولد زين... الخ.  

وتضمن العدد تحقيقا ميدانيا مصوار عن محظرة العلامةأحمد ولد محمذفال في تنجغماجك، وبحثا

في مكانة وتاريخ المسجد الأقـصى وما يتعرض له من جارئم الاحتلال اليهودي... إلى غير ذلك.

كما تضمن نفس العدد الجزء الأول من تعريف تاريخي وأكاديمي بمؤسسة المعهد العالي

للد ارسات والبحوث الإسلامية ونظامها الداخلي ومنهجها العلمي.  

وبقدر كبير من الجهد والتـصميم وقهـر الـصعوبات توالـت إصـدا ارت الأعـداد الأخـرى سـنويا

،متضمنة مزيدا من البحوث العلمية والتحقيقات الميدانية عن المحاظر وعطائها ورجالها.  

واستطاعت المجلة في هذا الميدان تقديم أهم المحاظر القائمة خاصة تلك التي كانت لا يزال فيها

أعلام أجـلاء مـن تلامـذة يحظيـه بـن عبـد الـودود وأضـ اربهم، نـذكر منهـا بالإضـافة إلـى

محظرة العلامة أحمد بن محمذفال الآنف ذكرها: محظـرة

العلامـة محمـد عـال بـن نعمـه بـالفريوه ،ومحظرة العلامة الحاج ولد فحفو في قمـم جبـال

تكانـت الـوعرة، ومحـاظر الكحـلاء والـصف ارء فـي لب اركنة، وأهم المحاظر في كرو

في العصابة، وولاته في الحـوض الـشرقي، وتـاريخ وتـ ارث المـدن التاريخية كشنقيط ونظيراتها...  

أيضا اهتمت المجلة بالقضايا الفقهيـة والفكريـة وقـضايا العـالم الإسـلامي المعاصـرة والقـضايا الاجتماعية

والمصارف الإسلامية والأدب العربي والتقنيات الجديدة؛ حيث قدمت أول د ارسة عن عن ثورة الحواسيب

تنشر في بلدنا (بعنوان: العربية تكتسح الكومبيوتر) قبل أن تصلنا هذه التقنيات نفسها بعقد من الزمن تقريبا.

كما حرصت في كافة أعدادها على مواكبة النشاط العلمي والبحث بالمعهد، من خلال نشر كشوف بأبحاث

التخرج: مواضيعها وأسماء أصحابها، وم ارجعـة بعض المتميز منها  .

 

وكما سبقت الإشارة فقد كانت البحوث العلمية كثيرة متعددة المستويات (بحث نصفي لتجاوز السنة الثانية

وبحث نهائي للتخرج). وكانت بحوث التخرج خاصة تخضع لمعايير علمية صـارمة مـن حيـث الإشـ ارف

والنقـاش ومـنح الـدرجات. ولـم تكـن سـهلة ولا متيـسرة كمـا هـي اليـوم؛ حيث تقلصت المعايير وتراخت

الرقابة وسهل "النسخ واللصق" وأصبحت الدروس تجارة مـذكرات رخيصة في الوارقات!  

في ذلك الوقت كان الطلاب يشمرون لبحث التخـرج بعد تجاوز السنة الثانية مباش رةويجوبون البلاد بحثا

عن نسخة ثانية أو ثالثـة مـن مخطـوط، أو لمقابلـة شخـصية أو التحقـق مـن حكاية أو رواية تاريخية...

ولـم تكـن هنـاك بـالطبع إنترنـت ولا حتـى "مـذكرات" الأسـاتذة ولا حريـة مطلقة في اختيار موضوع

البحث وحجمه واسم الأستاذ المشرف عليه...  

وٕإذا كان ذلك لم يحل دون وجود بحوث ضعيفة أو حتى رديئة، فإنه أدى في أغلب تلك الفترة الذهبية

من تاريخ "م ع د ب إ" إلى إنجاز بحوث متميزة متقنة أودعت من المعلومات العلمية والجهود المضنية

ما جعلها أهم بكثير من أكبر بحـوث الـدكتواره ومـا بعـدها فـي مـضمار يومنا هذا.  

ولقد كان ذلك أمار يفرضه نظام المعهد نفسه؛ الذي ينص على أن "م ع د ب إ" مؤسسة علمية تقوم على

ركيزتين متعانقتين هما قطاع التدريس وقطاع البحث.  

وفي الأخير فإن المعهد العالي للد ارسات والبحوث الإسلامية يظل مؤسسة ارئدة حظيت بسمعة طيبة

بسبب تميز بعض القضاة والأساتذة الذين خرجتهم في بداية مسيرتها خاصة.  

ولكي يسترجع ذلك المستوى ويحافظ عليه، لا بد أن يعود إلى منهج الصرامة العلمية والمحافظة على

الجوهر المحظري بدل التوسع الكمي الذي جعله قبلة سهلة الولوج مضمونة التخرج بشهادة لا تكلف

صاحبها أو صاحبتها أكثر من اتصال إنترنت!!.

بقلم :ممحفوظ أحمد